is-single */

معلومات الكاتب


من قصر المهاجرين إلى تاكسي بيروت: اعترافات سائق أسماء الأسد

من قصر المهاجرين إلى تاكسي بيروت: اعترافات سائق أسماء الأسد

سائق أسماء الأسد في بيروت يتحدث عن ذكرياته وقصص السوريين الفارين من النظام

في ظهيرة بيروتية عادية، عند الساعة الثانية عشرة تماماً، خرجت من أحد صالونات التجميل في حيّ البوشرية، أحد أكثر أحياء العاصمة ازدحاماً وصخباً. بدا المشهد مألوفاً ومربكاً في آنٍ واحد؛ فصوت الباعة المختلط بأبواق السيارات كان يعيدني قسراً إلى ذاكرة دمشق القديمة، إلى تلك الأزقة المليئة بالحكايات التي لم تُروَ بعد. وقفت عند الرصيف بانتظار سيارة أجرة تقودني نحو أنطلياس، دون أن أعلم أن تلك المصادفة ستفتح لي باباً على واحد من أكثر القصص غرابةً وإثارة.

تاكسي بيروت... واللقاء غير المتوقع

مرّت أكثر من نصف ساعة قبل أن أظفر بسيارة أجرة تحمل لوحة حمراء. صعدت دون تفكير، فقط لأهرب من حرارة النهار وثقل الذاكرة. سألني السائق بلهجة مألوفة: “إلى أين؟”، فرددت بسؤال مفاجئ: “من اللاذقية، صحيح؟” ارتبك قليلاً، ثم ابتسم وقال: “قريتي مجاورة لقريتكم... اسمي الباشا.” هكذا بدأ الحديث الذي كشف لي عن حياةٍ مزدوجة لرجلٍ كان يوماً جزءاً من النظام السوري، قبل أن يتحول إلى سائق تاكسي في بيروت.

من سائق المدام إلى لاجئ بلا هوية

بصوتٍ خافتٍ ومليء بالحذر، بدأ الباشا يسرد حكايته. لم يكن مجرد سائق أجرة عادي، بل كان أحد الحركيين السابقين في القصر الجمهوري بدمشق، وسائقاً خاصاً لأسماء الأسد لعدة سنوات. بعد سقوط مواقع عدة للنظام في 2013، قرر الهرب نحو لبنان خوفاً من التصفية، عبر شبكات التهريب الممتدة من القصير حتى وادي خالد. ومنذ ذلك الحين، يعيش في غرفة صغيرة بضاحية بيروت مع مجموعة من العسكريين السابقين، الذين صاروا يطلقون على أنفسهم لقب “فلول النظام”.

روى لي كيف اضطر للاستدانة لشراء “فان” صغير استخدمه لنقل الفارين من سوريا إلى لبنان مقابل مبالغ رمزية. قال لي: “هربت نحو 20 ضابطاً صغير الرتبة، معظمهم كانوا يعملون في الأفرع الأمنية الحساسة. اليوم، بعضهم يشتغل دهاناً أو عامل مواقف سيارات. ضيعنا الرتب والمناصب، لكن حافظنا على حياتنا.”

الوجه الخفي لأسماء الأسد

حين ذكرت أمامه اسم أسماء الأسد، ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة. قال: “كيسة من برا... جميلة من الخارج، بس جواتها ما بتتخيل.” ثم أضاف بعد لحظة صمت: “كنت حابب أكون ضابط حقيقي، بس صرت سائق عند المدام، ما شفت منها إلا الأوامر والعصبية.” أشعل سيجارته وتابع: “كانت الوجه الناعم للسلطة، بس ورا الكواليس كل شي مختلف... كانت تدير المال والرجال من خلف ستار.”

من واجهة ناعمة إلى سلطة اقتصادية

تُظهر روايات الباشا أن أسماء الأسد لم تكن مجرد زوجة الرئيس، بل محورًا أساسياً في المنظومة الاقتصادية السورية الجديدة. فبعد وفاة باسل الأسد وصعود بشار إلى الحكم، بدأت أسماء تعمل على إعادة هندسة الاقتصاد السوري لصالح عائلتها المباشرة، مقصيةً كبار رجال المال الموالين للأسد الأب، مثل رامي مخلوف، الذي كان يوصف بأنه “خزان النظام المالي”.

وفي العام 2010، كانت أسماء الأسد في ذروة بريقها الإعلامي. مجلة Vogue الأمريكية وصفتها بأنها “وردة الصحراء”، في مقالٍ فاخرٍ يصفها بأنها امرأة عصرية تهتم بالفن والتكنولوجيا والتعليم. غير أن هذا البريق بدأ يخفت سريعاً مع اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، حين ظهرت صورها إلى جانب بشار الأسد في القصر الرئاسي بينما المدن السورية كانت تحترق.

تداخل المال والسياسة في حكم آل الأسد

أشار الباشا في حديثه إلى أن أسماء الأسد كانت وراء إقصاء رامي مخلوف من المشهد الاقتصادي، واحتكار قطاعات حيوية مثل الاتصالات والمصارف والمشروبات الكحولية. يقول: “ما كان يمرّ قرار اقتصادي إلا بإذنها. كانت تراقب كل شي وتقرر بنفسها.” وأضاف أن النظام استخدم واجهات رجال أعمال، مثل نبيل الكزبري وأبو علي خضر، لإدارة أموالها في الداخل والخارج، وهي نفس الشبكات التي كانت تتعامل مع أموال باسل الأسد المجمدة في البنوك النمساوية، وفقًا لتقارير غربية عديدة.

الهروب من السلطة إلى الذاكرة

قال لي الباشا بنبرة خافتة: “كل يوم منطلع ندور على شغل، ما منعرف إذا منرجع عالليل أو منختفي متل غيرنا. بس منخاف نرجع، ومنخاف نبقى.” كانت تلك الجملة تختصر مأساة جيلٍ كامل من السوريين الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة النظام وسندان المنفى.

بين بيروت ودمشق... غربة لا تنتهي

قبل أن أصل إلى وجهتي، طلب مني السائق أن أساعده في إيجاد عمل “نظيف”. قال: “نحنا منسمي حالنا فلول النظام. ما عاد إلنا مطرح، لا هون ولا هنيك.” عندما نزلت من السيارة، نظرت إليه عبر المرآة. كان وجهه يحمل كل التعب السوري الممكن: مزيج من الخوف والحنين والندم. ومنذ ذلك اليوم، لم أعد أستقل تاكسي من الشارع، لا خوفاً من السائقين، بل من الذاكرة نفسها.

الذاكرة كجريمة

في حياة السوريين اليوم، تحوّلت الذاكرة إلى عبءٍ خطير، لا يجرؤ كثيرون على حمله. أولئك الذين فروا من النظام يحملون داخلاً ثقيلاً من الأسرار، لكنهم يعرفون أن قول الحقيقة قد يكلّفهم حياتهم. فالنظام الذي أخرجهم من الخدمة، ما زال يلاحقهم في كل زاوية، حتى وهم يبيعون الخبز أو يقودون سيارات الأجرة في بيروت.

مستقبل غامض لسوريا المنهكة

قصص “الباشا” وأمثاله تفتح باب التساؤل حول مستقبل سوريا بعد سنوات الحرب الطويلة، وكيف ستتعامل البلاد مع موجات العودة والعدالة والمحاسبة. هل يمكن بناء وطنٍ جديد على ذاكرة الخوف؟ الإجابة ما تزال غامضة، تماماً كما غموض الطريق الذي سلكه ذلك السائق من قصر المهاجرين إلى تاكسي بيروت.

قد يهمك أيضاً:

المصدر: تقارير وشهادات ميدانية من مراسلين في بيروت، ومقابلات أجريت مع عسكريين سوريين سابقين، مع مراجعة لأرشيف مجلة Vogue وتقارير الأمم المتحدة حول النزوح السوري.

المقال التالي المقال السابق

Translate



📢 عاجل:
*/